رجل من زمن الكبار

رجل من زمن الكبار

نبيل عمرو

... كان لابد من تحريك جيش متكامل لأداء مهمة القضاء عليه.

أكثر من ثلاثة الاف ميل  قطعت الطائرات التي تزودت جواً بالوقود لايصال القتلة الى الهدف ، لم يكن ممكنا تخيل ان خليل الوزير ابو جهاد يمكن أن يُقتل بغير هذه الترتيبات ، فعلى قدر فعله ومركزيته وتأثيره، جهزت اسرائيل ما يضمن وضع حد لحياته .

كان ابو جهاد رجل ميدان من طراز نادر، وكان قدرياً لا يخشى الموت ولا يحتاط كثيراً لدرءه عنه، فكتبت له الحياة وكانت زاخرة بالعمل والانجاز ، قليلون من قادة الثورات المرموقين في التاريخ، يشبهونه في هدوءه وقدرته بل ورغبته في أداء مهمات خطرة بنفسه دون الاعتماد على المساعدين والعناصر المنطوية تحت قيادته ، قليلون يعرفون ان خليل الوزير وحين احتاجت الثورة الفلسطينية الى عملية مدوية تعيدها الى الملعب، هو من نفّذ ثلاثة ارباع عملية الشاطئ التي خلّدت اسم دلال المغربي من خلالها ، وقليلون يعرفون كذلك انه تاه في البحر ليومين وعثر عليه مرافقوه بمحض الصدفة ، وحين التقطوه من جوف الزورق البدائي كان هادئاً كما لو انه في نزهة.

حين أقول ابو جهاد من زمن الكبار فلأن الكبار يولدون ويتكرسون من خلال قدراتهم الخارقة على أداء المهمات المستحيلة ، وهل كان هنالك مهمة أكثر استحالة من انبثاق ثورة مسلحة في قلب الشرق الاوسط وفي مواجهة العالم كله آنذاك، كان ابو جهاد واحداً من أولئك الرجال الذين قهروا الصعوبات وأوجدوا للشعب الفلسطيني هوية بديلة عن هوية اللاجئ المتشرد قليل الحول والحيلة ، فاقترنت اسماء الكبار مع افعالهم واندمج ذلك كله في أداء ثوري مبدع غيّر مسار التاريخ وأقنع العالم الذي تعود ادارة الظهر لفلسطين والفلسطينيين بأن القلق والخوف والاضطراب هما سمة العصر ما دام الفلسطيني محروماً من حقوقه وممنوعا عن تقرير مصيره بنفسه.

كان خليل الوزير يجسد هذه المعاني بالفعل وليس بمجرد التطلع والطموح ، كان مبعدا نفسه عن وسائل الاعلام لأنه في الاصل لا يحب الاستعراض ولا الكلام البديل عن الفعل ، ولا غرابة حين نقول انه كان قائداً ثورياً عالمياً فما من مناضل من أجل الحرية إلا وسعى خليل الوزير لمد الجسور معه ، ولقد فتح مراكز التدريب الفلسطينية حيثما وجدت امام ثوار العالم حيثما وجدوا ، وكل حركة تحرير انجزت انتصارها كانت تحفظ لابي جهاد جميله ، وتحضرني هنا واقعة كنت شاهداً عليها حين اضطرت طائرتنا التي تقل ياسر عرفات للهبوط في احدى الجزر لاصلاح خلل فني، وقد حضر الينا في ساعات الصباح الاولى بعد الهبوط شابٌ يرتدي سترة رياضية عرّف نفسه على أنه وزير الدفاع وقد تدرب في أحد معسكرات ابو جهاد.

كان مدّعوا اليسار الطفولي الفاشلون في بلدانهم وبرامجهم يتهمون خليل الوزير باليمينية، وبأنه يغدق الاموال على خصومهم على نحو أدى الى فشلهم، لم يكترث ابو جهاد لهذه الاقاويل وكان يقول انني ادعم كل مناضل من اجل الحرية شيوعيا كان ام قوميا ام وطنيا ، ولعل من بقي على قيد الحياة من قادة حزب راكاح الذين عاشوا زمنه يذكرون حين التقاهم في براغ كيف قدم لهم ورقة بيضاء وقال لهم اطلبوا ما تشاؤون ماديا ومعنويا ، فكان اول امر صدر للاذاعة الفلسطينية لدعم راكاح في انتخابات الكنيست قد جاء من ابو جهاد بناء على ذلك وهنالك اشياء اخرى حدثت في هذا السياق .

لم يكن لا يساريا ولا يمينيا ، لا تقدميا ولا رجعيا، وفق التصنيفات البائتة، فكونه فلسطيني فقط فهذا يكفي ويزيد ، ولما غاب ابو جهاد بدء زمن الكبار يضمر ويضيق ، فبعده غاب أبو اياد الرجل الذي كانت تهتز لاسمه اعتى غرف القرار وبعده خالد الحسن ابو السعيد صاحب الفكر الراقي والاداء المثقف المتفوق ، ومن جيلهم كنا فقدنا كمال عدوان وماجد ابو شرار و ابو يوسف النجار ، من نذكر ومن لا نذكر ، فأي ذهن يتسع لرجال العصر الذهبي لفتح ... للثورة الفلسطينية ، اسميناه مزارع فتح ، الساهر على اشجارها الخضراء، واسميناه نائب القائد العالم لأنه في الواقع كان نسخة عن ياسر عرفات في الشأن الداخلي ، وحين رحل اسميناه امير الشهداء ، ولا أخال رجلاً تنطبق عليه كل هذه المسميات انطباقا كاملا اكثر من خليل الوزير ابو جهاد.