زياد عبد الفتاح

كان صديقى الذي شاركنى الخلية الفتحاوية الأولى، وليد عبدوني،وكان وكيل مدرسة فى السالمية ،وفيما بعد عندما تدارسناحادثة طردنا وحل أول خلية انتمينا اليها فى فتح ، كان خليل الوزيرقد انقطع عن الحضور الى المدرسة ، بل انه غاب عنها أشهراً لم يكن أحدنا ليستطيع ان يغيبها. لقد خلف ذلك اسئلة وعلامات تعجب واستفهام استطعت حلها بعد ذلك بسنوات عندما أصبحت عضواً عاملاً بل وكادراً من كوادر حركة فتح فى اواخر الستينات ، وعندما اصبح خليل الوزير فى متناول فضولى .

 

حدثنى بأنه فى تلك الفترة زار الصين والقاهرة وأقام زمنا فى الجزائر يحضر اثناءه لانطلاقة الكفاح المسلح. فى الصين الماوّية فى ذلك الوقت وحيث كانت الثورة أبو المعاصرة ماوتسي تونغ الذي أنجز مسيرة الالف ميل، استطاع ابوجهاد أن يدرج على اجندة الحزب الشيوعى الصينى مِنحاً وبعثات تدريب عسكرية على حرب العصابات . وفى الجزائر فعل الشئ ذاته ، كانت ثورة الجزائر انتصرت على الاستعمار الفرنسى  الاستيطاني الذى كان يمارس فرنسة مبرمجة للجزائر، وكان الحكام الجزائريون يتراوحون بين قوميين وماركسيين يحدوهم الأمل فى بعث الثورة فى كل مكان . ولما كانت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية والعالم الاسلامى، فقد وجد خليل الوزير أن الأرض ممهدة ، ففى الجزائر كان الواجب تجاه فلسطين مقدساً. لذلك كانت الجزائر فى تلك الوقت المبكر من التحضير ومن عمر الثورة الفلسطينية ارضاً خصبة لثوار فلسطين وللفلسطينين عموماً.

 

أردت ان أسجل هذا التاريخ على ضآلة معلوماته والا أتوسع فيه لاننى كنت أهدف الى التمهيد للقائي بياسر عرفات الثانى بعد الأول والذي جاء بعد سنوات طويلة فى الأغوار ثم فى عمان وبعد ذلك فى إربد وأماكن متفرقة من الاردن ، لكن تلك اللقاءات كانت عابرة ولم تُعلّم فى ذاكرة 'أبو عمار' وبالتالى فى ذاكرتي  لسببين: الأول اننى لم أكن بعد قد نضجت واتجهت نحو الحركة باندفاع الثائر او المناضل بسبب خلفيتى الايديولوجية، والثانى لأن تلك اللقاءات الثلاثة او الاربعة المتناثرة كانت للحظات او دقائق، وكانت وسط حشد من الكوادر والعناصر حيث يصعب الدخول بعمق فى مركز القلب وثنايا الذاكرة. فى تلك المرحلة كنت متوتراَ ولا أتبيّن طريقاً لى أرسو على ضفافه. كنت داخل فتح وخارجها.. فقد بدأت أدخل مركز فتح ولكنني لم أكن منظماً، كان يملؤنى فضول الكاتب الذي لم يُفق بعد على موهبته، و'حشرية' الصحفى الذي لم يكن بعد قد امتهن الصحافة.وفى كل مرة كنت اعود الى دمشق وأنا مثقل بالهواجس والشكوك. ما هى حركة فتح ومن هى ومن 'ابو عمار' الذي بدأ يغرد خارج سرب القيادة؟

 

وجاءت الضربة القاصمة التى أطاحت بى وبأحلامي وأوهامى معاً . جاءت هزيمة عام1967  وأنا فى دمشق ، كانت نذر الحرب تتوالى والطبول العربية فى دمشق والقاهرة تدق دقاً عنيفاً تلهث وراءه وتردّده الاذاعات فى العواصم العربية والأطراف.كانت الخطابات عالية وحماسية وعشوائية الى الحد الذي حجب عنا الحقائق وحوّلنا  الى مهرجين ومغفّلين ،نمتشق الكلاشينكوف ونتجول  وسط الظلام الدامس فى مدينة دمشق للدفاع عن عاصمة الأمويين ضد اى اختراق اسرائيلي.وكانت الاذاعة والتلفزيون السوري الذي كان عمره يُمَدّ بسنوات قليلة لا تتجاوز أصابع اليد ، يبث اغانيه الوطنية والعنترية التى كتبها شعراء مسكونون بحب الأرض والوطن..ولكن بما لايتجاوز ثقافة الانفعال المجاني:

 

'الميج طارِت واعتلت           ميراج هربت واختفت

 

ميراج طيارك هرب            مهزوم من نسر العرب

 

وغيرها من الشعارات والأناشيد والاغانى السريعة الايقاع والمرتجلة ! لم نكن فى تلك الساعات والأيام المعدودة جداً ، نعلم ان الجبهة السورية قد سقطت خلال ساعات وكانت الجبهة المصرية قد سقطت قبلها وان طائرات ' الميج' السوفيتية الصنع قد تحطمت فى مدارجها قبل ان تتطير وتعتلي تبدأ وحتى قبل ان نتطلق، وان الضفة الغربية بكاملها قد سقطت، وانه ليست فلسطين وحدها وانما الجولان وصحراء سيناء حتى قناة السويس قد اصبحت خلال خمسة أيام فى قبضة الاسرائيلين .

 

فى تلك الأيام الحزينة من الإحباط ومن هزيمتى الشخصية و المهانة التى أحسستها، مرّ بى رجل كنت أعرفه لفترة سابقة، ليست طويلة ولكنها حاسمة. قال لي :ألست فتح ألم أرك فى عمان لدى ' أبو عمار'لماذا تجلس هكذا كئيباً وتنطوي على أحزانك لماذا لا تأتى معي الي القاهرة؟. ثمة ما ينتظرك هناك !

 

كان ذلك قبل معركة الكرامة، وكنت لا أزال أجتر خيبة عربية عامة اعتبرتها خيبتى وهزيمتى فى آن معاً . لم أجب وهو بدوره لم يلحّ علي، وسافر لا أدري الى اين هل الى عمان أم الى القاهرة! كان ذلك الرجل المسكون بالوداعة والدماثة  والحلم  هو هايل عبد الحميد او ابو الهول ، الذي ذهبت معه بعد ذلك ، فى اعقاب  معركة الكرامة الى القاهرة فإلي 4  شارع الشريفين المتفرع من اشهر شارع من شوارعها، شارع قصر النيل، حيث كانت الاذاعة المصرية الوطنية الأولى التي خلفت اذاعة ماركوني . هناك بدأت مشواري الحقيقي مع فتح، وبدأت اكتشاف موهبتى عبر إذاعة كانت تبثّ ساعة واحياناً ساعتين فى اليوم وتطلق شعارات وتذيع رموزاً لانعرف حلها وتتخذ من اكثر المواقع علنية فى قلب القاهرة موقعاً سرياً لها! تطلّ به على العالم العربى والدنيا: 'صوت العاصفة ،صوت فتح ، صوت الثورة الفلسطينية'.

 

لم اكن قد دخلت اذاعة ، ولم تطأ قدمى القاهرة او أرض مصر قبل ذلك التاريخ . كان هايل يصطحبني معه، وفى الطائرة حدد لى المسار. لم أعقب ولم اسأل او أستفسر فالمهزمون لا يدققون ولا يثيرون الكثير من الاسئلة . قال لي إن المطلوب مني بعد استراحة اسبوع أقضيها فى التعرف على القاهرة أن أمرّ به ليحدد لى مهماتى بوضوح أعلى. وحينما كانت الطائرة تستعد للهبوط وبدأنا نربط الحزمة أسّر لي بأنه يفضل أن أعمل فى الاذاعة . دهشت وكدت أسأله ماذا يقصد لكنه أوضح وابتسامته العذبة تسبقه بأنهم بدأوا البث التجريبي لاذاعة العاصفة وأنه يأمل ان اكون أحد مؤسسيها وروادها. أقلقني هايل . كان جميلاً وبسيطاً وينفذ اليك مباشرة فماذا سيكون عليه دوري أنا المحبط المشرد، فى اذاعة لا أعرف فى الأساس وبأي وجه!كيف أدخلها؟

 

كنت على جهل تام ليس باذاعة العاصفة وحسب، وانما بكل اذاعة أخرى . لم أتصور ان هذه البداية سوف تشكل قدري ومسار حياتي، وانني سوف التقي فيها على نحو عابر، فى البداية، ثم بشكل اكثر عمقاً على مر الأيام بياسر عرفات، الذي اقتربت منه شيئاً فشيئاً الى الحد الذي ارتبطت فيه ومعه ارتباطاً وثيقاً، مكنني من أن أطل  على رجل من أخطر الرجال وأعذبهم  واكثرهم تأثيراً وفعلاً فى عالمنا ـ المعاصر.

 

فى القاهرة لم يُخلف هايل عبد الحميد وعده .قبل ان أذهب اليه في مكتبة فى شارع الألفي كنت قد فكرت طويلاً، كنت، كما مكت من قبل، في فتح وخارجها.. ففي أعقاب معركة الكرامة مضيت الى عمان كي أجد لي مكاناً تحت شمس 'فتح'. قبل ذلك في دمشق التقيت بخليل الوزير من جديد.. سلم علّي وعانقني دونما حماسة، ولكن بابتسامة دافئة اشتهر بها . أذكر يومها أنه سألني هل حان الوقت من جديد لأنضم للحركة ، وأنا الذي كنت  تائهاً وضائعاً ولا أرسو على يقين ،وجدتني أعلن أمامه انني جاهز تماماً.قال: منذ الآن أنت عضوعامل فى الحركة، انتظر التعليمات.. غير أن أسابيع انقضت دون أن اسمع منه او من غيره ، غاب ولم أعد أعثرله على خبر.